الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.اعلم أن التقدير وكما: زدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم، فضربنا على آذانهم وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم، فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ قلنا: لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته.ثم قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ} أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا لبثنا يومًا فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم، ثم قال تعالى: {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة.ثم قال: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم {بورقكم} ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ: {ها} مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير {بورقكم} بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفًا من ورق، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها.ويقال أيضًا للورق الرقة، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا}.قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوسًا وفيهم قوم يخفون إيمانهم.وقال مجاهد: كان ملكهم ظالمًا فقولهم: {أزكى طَعَامًا} يريدون أيها أبعد عن الغضب، وقيل أيها أطيب وألذ، وقيل أيها أرخص، قال الزجاج: قوله: {أَيُّهَا} رفع بالابتداء، و{أزكى} خبره و{طَعَامًا} نصب على التمييز، وقوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي لا يخبرن بمكانكم أحدًا من أهل المدينة: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} [الصف: 14] أي عالين، وكذلك قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] أي ليعليه وقوله: {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] وقوله: {أَن تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] وأصله الرمي، قال الزجاج: أي يقتلوكم بالرجم، والرجم أخبث أنواع القتل: {أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} أي يردوكم إلى دينهم {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله: {إِذًا أَبَدًا} يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبدًا، قال القاضي: ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل، والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر، فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا: {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه، والله أعلم.{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}.اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة، فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالوا: إن أصل هذا أن من كان غافلًا عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه، فكان العثار سببًا لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين: الأول: أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولًا مخالفًا للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولًا خارجًا عن العادة.والثاني: أن ذلك الرجل لما دخل إلى السوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام: هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم.وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزًا، واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال: بعت بها أمس شيئًا من التمر، وخرجنا فرارًا من الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزًا وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى: {لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفًا فجعل الله أمر الفتية دليلًا للملك، وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم: الجسد والروح يبعثان جميعًا، وقال آخرون: الروح تبعث، وأما الجسد فتأكله الأرض.ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف.فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله: {إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ} متعلق بأعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم.واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث، فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته، وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها، وقيل: إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس، فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا.والقول الثالث: أن بعضهم قال: الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان.وقال آخرون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.والقول الرابع: أن الكفار قالوا: إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنيانًا، والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجدًا.والقول الخامس: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم.والسادس: أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم، ثم قال تعالى: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وهذا فيه وجهان.أحدهما: أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم.الثاني: أن هذا من كلام الله تعالى ذكره ردًا للخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ثم قال تعالى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} قيل المراد به الملك المسلم، وقيل: أولياء أصحاب الكهف، وقيل: رؤساء البلد: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد. اهـ..قال الماوردي: قوله عز وجل: {وكذلك بعثناهم} يعني به إيقاظهم من نومهم. قال مقاتل: وأنام الله كلبهم معهم. {ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم} ليعلموا قدر نومهم.{قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} كان السائل منهم أحدهم، والمجيب له غيره، فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود، فلما رأى الشمس لم تغرب قال: {أو بعض يوما} لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره.{قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم} وفي قائله قولان:أحدهما: أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم.الثاني: أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال: {ربكم أعلم بما لبثتم} فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه، وهذا قول ابن عباس.{فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة} قرئ بكسر الراء وبتسكينها، وهو في القراءتين جميعًا الدراهم، وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم، قال الشاعر:يعني إبله وغنمه.{فلينظر أيها أزكي طعامًا} فيه أربعة تأويلات:أحدها: أيها أكثر طعامًا، وهذا قول عكرمة.الثاني: أيها أحل طعامًا، وهذا قول قتادة.الثالث: أطيب طعامًا، قاله الكلبي.الرابع: أرخص طعامًا.
|